أوصَل هاتفه بالشاحن وقال في نفسه: “غدًا أجمل” ثم أغلق عيناه وغطّ في سُباتٍ عميق، استيقظ صباحًا بابتسامة تعلو مُحيّاه، فها قد أشرقت شمس يوم جديد وتحدي آخر، اليوم سيصنع من نفسه شيء، اليوم موعد اللقاء مع المدير الجديد، استيقظ بنشاط وحيوية حتى أنه أفاق ليوقظ المنبه وليس العكس، فمنبه ساعته لم يهتز حتى الآن، همّ بالنهوض ورفس غطاء سريره كليثٍ يعدو خلف فريسته، ووضع قدماه طارقًا على أرضيّته الخشبية، معلنًا عن بداية يومه.
مد يده لهاتفه إلّا أن الشاشة لم تُضئ! بدأ الخوف يُخالجه، اقترب من هاتفه أكثر وأمعن النظر بعينٍ واحدة فعينه الأخرى لم تفتح أهدابها بعد، إلّا أن كل ما يراه هو انعكاس وجهه على الشاشة، بدأ ينتبه ان محيطه ليس كسابق عهده، فضوء الشمس أقوى! والغرفة أوضح من سابق أيّامها! صوت العصافير أقلّ إزعاجًا من ذي قبل! مهلًا كم الساعة! لِمَ هاتفي لا يعمل!
فرفع بصره ليرى بأنه نسي أن يضع المِقبس على وضع التشغيل، ورفع رأسه لساعة حائطه وإذ بها تُشير على السادسة والنصف، وعلى رأس دفتر مهامه لقاء مع المدير الجديد في يومه الأول في الساعة السابعة والنصف، فشهق شهقة فزّ بسببها قطّه السمين ذو الأعين الغائرة بلّوط، وكادت عيناه أن تخرج من محاجرها، فالعين المغلقة قد انفتحت على مصراعيها بل أنها جَحُظت، قفز وأصبح كمن يجري في الهواء، أرضه الخشبية تنظر إليه بإعجاب فهو يمشي دون أن يطأ عليها، أصبح يسبح في الجو.
الكثير يدور في رأسه فهو لا يعلم أي الأعمال يُبدي أولًا، اتجه لغرفة ملابسه ليرتدي حُلّته وبينما هو في طريقه قرّر أن يخلع بنطاله كي يُسرّع من عملية التغيير إلّا أنه وقع طريح الأرض والتقى بالأرض الخشبية مرة أخرى فقالت الأرض في نفسها (ما طار بشر إلّا وكما طار وقع) أهلا بك مرة أخرى يا مالكي.
أخرج ملابسه إلّا أن أحد جواربه مفقود فأخذ أقرب شيء تصله يداه، وارتداهما على عجل وعينه على الساعة فقد مرّت أربع دقائق، ففزّ مرة أخرى وأصبحت أصوات قدماه تُسابق عقارب الساعة دخل لدورة المياه ليغسل وجهه ويُسرّح شعره نظر إلى الفرشاة والمعجون بعين وعينه الأخرى على الساعة وها قد أصبحت السادسة وأربعون دقيقة فتنازل عن الفُرشاة والمعجون، عاد مسرعا ليلتقط هاتفه عالمًا بأن أعضاء إدارته سيتصلون عليه في هذا اليوم المهم، إلّا أنه لم يعمل بعد، لازال هاتفه جائعًا، وحينما أراد أن ينهض ليُكمل ما تبقى، وطأت قدمه على السلك فنزعه من رأسه، فاستشاط غضبًا، فصرخ صرخة بائس أيقظت بلّوط مرة أخرى والذي كان لتوّه قد عاد لنومه.
ذهب لطاولته لأخذ أوراقه ليضعها في شنطته فوجدها جميعا مرتبة ومصفوفة في الحقيبة لتتراقص عيناه فرحا وكأنهما يتهامسان أخيرًا شيء جميل لهذا البائس، سحب حقيبته ولم يغلقها جيّدًا فوقعت أوراقه وتناثرت لتنظرعينٌ لأخرى وتقول لها “هذا بفعلتِك ياجارتي” قام بجمعها وحينما وضعها انهمرت الأصوات من هاتفه كوابل من الحجر الغليظ، اشتغل هاتفه ولم يسكت حتى وصل له ليرى إشعارات كثيرة والعديد من علامات الترقيم وأكثر ما ورد فيها علامات الاستفهام فمُساعد المدير يسأل أين أنت؟ وأين القهوة والكعك؟ ألم تتتكفل بإحضارها؟ فضرب على جبيه بصوتٍ قفز له بلّوط مُرتاعًا والذي قرر أن يحمل نفسه ويغادر هذا المنزل.
ركض يقفز درجات سُلّمه ليصادف في منتصفه جارته والتي بلغ بها العمر عِتيًا، تريد حمل صندوق قد وصلها من حفيدها، حاول أن يغضّ الطرف لكيلا تنتبه عليه وتناديه لمساعدتها وقد فعل ذلك بالفعل، إلّا انها لمحته وطلبته ولكن لم يُجب ثم صرخت إلا أنه كالذي لا يرى لا يسمع لا يتكلم، حتى وصل في ثواني إلى نهاية العمارة، عبر بجانب البوّاب دون حتى أن يُكمل ابتسامته له.
هاهو هاتفه يرن والساعة السادسة واثنان وخمسون دقيقة، وصل لسيّارته وقال في نفسه سأقتل نفسي إن كان هنالك إطار مثقوب، ولكن لحُسن حظّه إطاراته كانت سليمة، وهَمّ لفتح باب سيارته فأتى طيرُ عابر يداعب نسمات الهواء فأنزل عليه حمولة طيّبة وطازجة، لتقع على مُقدمة قميصه وبعض منها على وجنته، يريد أن يبكي ولكن لا وقت لذلك، أدار مُحرك سيارته ولم يشتغل، فابتسم بعبوس، أدار المحرّك مرة اخرى فاشتغل.
انطلق على الطريق يصرخ على القاصي والداني، انطلق مسرعًا وبوق السيارة لم يتوقف، يُسرع ويكبح فرامله ثم يُسرع مره أخرى، عادم سيارته خلق سحابًا كبيرًا حتى أنه قيل في ذلك اليوم أن ثقب الأوزون توسّع بمُعدّل أكثر من الطبيعي، اتصل على محل القهوة الذي بجانب الشركة ليُعدّ القهوة والحلويات مسبقًا ثم أغلق الهاتف، هاهو يتصل مساعد المدير مرة أخرى أين أنت؟ الجميع بانتظارك، ها أنا قادم ها أنا قادم هكذا يقول، أغلق الهاتف والساعة أصبحت السابعة وثمان دقائق.
علِق بزحام مروري ولم يبق مكان في ديكور مركبته إلّا وقد ضربه بلكمته، حتى أنه أراد النزول وحمل سيارته بيديه ليتخطى هذا الزحام، أصبح لا يريد الوصول، يريد فقط أن يتخطى هذا الزحام حتى يستطيع إيقاف مركبته ويذهب على قدميه، أتت رسالة نصية للهاتف وارتعد ظنا منه بأنها من مساعد المدير فوقع الهاتف في الزاوية الضيقة بين مرتبة السائق والديكور الذي في المنتصف، واستغرق وقتا حتى أخرجه، وإذ بها رسالة ترويجية لأحد الغسّالات الإلكترونية، فصاح بأعلى صوته، حتى أن بلّوط رفع رأسه وهو على بُعد أميال خارجا من المنزل.
فك الزحام قليلًا ليجد مكانا فأوقف فيه مركبته ونزل راكضًا بتلك الأجواء الحارّة، وصل إلى المحل ليرى صفًا طويلًا، وتخطّاه ليصيح عليه شخص قائلًا “ألا حترم وقوفنا!” لم يُعره اهتمامًا فلم يتبقّى سوى عشر دقائق، صاح الرجل مرة أخرى وخرج من صفه ليفتعل شجارًا ويشتبك معه بصوته أولًا قبل أن يدفعه أرضًا، نهض من الأرض قائلًا لقد طلبت سابقًا ياصاح! دعني في حالي، فاعتذر منه الرجل الغريب وعرض عليه أن يدفع قيمة مشترياته، إلا أنه لم يجد وقتًا حتى يتناقش معه.
أصبحت الساعة السابعة وخمس وعشرون دقيقة، وهاهو لا زال يُسابق الزمن حاملًا كيس حلويات وبيده الأخرى طابقين من القهوة والذي قد انسكب بعض منه على الغطاء بسيب تمايله أثناء المشي، وصل لباب الشركة، ثم دخل ووقف أمام المصعد ينتظر قدومه وهاتفه يرن إلّا انه لا يستطيع الرد وهو حامل كل هذا، تأخّر المصعد فذهب للسلالم وصعد عشرة طوابق، فتح الباب قبل يُصبح عقرب الساعة على السابعة والواحد وثلاثون.
وصل لاهثًا بملابس لا تليق بموظف، وصل إلى الإدارة حيث الأعين جميعها عليه، ترمقه من الأعلى للأسفل، شعر متطاير، ملابس يكسوها الغبار وبقعة الطير لم تزل، جزء من قميصه خارج بنطاله، أحد الجوارب يختلف لونه عن الآخر، وجهه أشحب وشفاه يابسة كشقوق طينية فوق صحراء جرداء، أخذ يلتفت يمنة ويسرة، ألم يأتي المدير الجديد بعد، فأومئ زميله بلا، فقال من ثِقل ما على كاهله ومما مرّ عليه بيومه، فقال بصوتٍ عال: “هكذا هم المدراء يُحرّكون الوقت بطوعهم ولا يجرون خلفه بل نحن الضُعفاء من يجري خلفه” وإذ بالمدير يظهر من خلفه، فانصرع واقفًا كمن رأى ظلّه يتحرّك! حتى دكّ العرق أسنانه، رمقه المدير بنظرة كانت عن ألف توبيخ.
جلس الجميع وذهب ليضع القهوة والأغراض على الطاولة، ها قد جلس وبدأ يتحدث المدير، وبينما هو يفعل ذلك، أراد بعد ركضه الشاق أن يذهب لدورة المياه فمثانته قد امتلأت، وهو يخرج بين الكراسي أصدر ضجيجًا، عبس بسببه المدير، فصوت الكراسي شوّش عليه حبل أفكاره حتى أنه صمت حتى يمرّ، وبعد أن خرج قال في نفسه محاولًا تهدئتها ستتحسّن الأمور ستتحسن الأمور، وحينما عاد كانوا قد أطفئوا الإضاءة للترحيب بالمدير بعرض صغير على الشاشة، وحينما عاد لكرسيّه جلس عليه وحركه كي يوازن المقعد فسحب سلك العارض المرئي فعمّ ظلام دامس فأخذ تنهيدة عميقة وقال في نفسه:
“ألا يا أرض ابلعي ما عليكي”